مكتبات العتبات المقدسة في العراق: منارات العلم والمعرفة

مكتبات العتبات المقدسة في العراق: منارات العلم والمعرفة

تشكل مكتبات العتبات المقدسة في العراق ركيزة أساسية للنهضة العلمية والثقافية في البلاد. فمنذ قرون، تربط هذه المكتبات الماضي بالحاضر من خلال جسر معرفي متين، وبالتالي تحفظ تراث الأمة وتنشر العلوم بين أبنائها.

وبفضل العناية الكبيرة التي أولاها المرجع الديني الأعلى الإمام السيد علي السيستاني، شهدت هذه المكتبات نهضة شاملة في السنوات الأخيرة. ونتيجة لذلك، أضاف القائمون عليها آلاف المصادر والكتب النفيسة التي تخدم مختلف الاختصاصات العلمية والدينية.

تؤدي المكتبات العامة، وخصوصاً في العتبات المقدسة، دوراً حيوياً في تشكيل صورة ثقافية متكاملة. فهي أولاً وقبل كل شيء تربط الباحثين والقراء المعاصرين بأفكار العلماء والمفكرين وإنجازاتهم عبر العصور المختلفة. علاوة على ذلك، تتيح هذه المكتبات للزائرين الاطلاع على مختلف العلوم والآداب والفنون.

جهود المرجعية في تطوير المكتبات المقدسة

قدمت المكتبات المقدسة، بفضل دعم المرجعية الدينية العليا، خدماتها لآلاف المستفيدين من طلاب العلم والباحثين ورجال الدين. بالإضافة إلى ذلك، ساهمت في تعزيز الثقافة كعامل حضاري يعبّر عن مستوى التفوق الفكري في المجتمع العراقي.

وفي كل مدينة مقدسة، وتحديداً في أحد أركان صحنها المشرف، اتخذ القائمون على العتبات المقدسة مكاناً للمكتبة العامة. وعلى وجه الخصوص، تستمد هذه المكتبات روح العلم من تراث الأئمة وعبق المراقد المقدسة، مما يمنح روادها أجواءً روحانية مميزة تشجع على طلب العلم والمعرفة.

المكتبة الحيدرية العامة: تاريخ عريق ومحتوى ثري

تُعد “المكتبة الحيدرية العامة”، المعروفة أيضاً بـ”الخزانة العلوية” و”الخزانة الغروية”، من أبرز المكتبات التاريخية في العراق. تقع هذه المكتبة العريقة في الصحن العلوي المقدس بمدينة النجف الأشرف، مدينة العلم والعلماء. وفوق ذلك، تعتبر النجف ثالث بقعة استجابت لمودة أهل البيت عليهم السلام.

نشأة المكتبة وتطورها

يعود تأسيس هذه المكتبة التاريخية إلى القرن الرابع الهجري، حيث يعتقد المؤرخون أن عضد الدولة البويهي أسسها، وهو أحد أهم حكام الأسرة البويهية التي حكمت العراق وبلاد فارس. امتدت فترة حكمه من سنة (338-372هـ) وشملت العراق بأكمله ومناطق أخرى.

لقد ميّز الباحثون المكتبة الحيدرية عن غيرها بما تحويه من كتب ونفائس نادرة، كتب مؤلفوها الأصليون معظمها بخط أيديهم. ونظراً لأهميتها الكبيرة، زارها العديد من أهل العلم والمؤرخين والرحالة عبر القرون. فعلى سبيل المثال، وثّق ابن بطوطة زيارته لها عام 727هـ، وكذلك الشيخ علي حزين اللاهيجي الذي أقام في النجف لمدة ثلاث سنوات.

أسباب شهرة المكتبة الحيدرية

تعود شهرة هذه المكتبة إلى عدة أسباب، أولها انتسابها إلى مرقد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. فضلاً عن ذلك، اهتم السلاطين والأمراء والوزراء بها وأهدوا إليها أنفس المخطوطات والكتب. وبالمثل، أثرى العلماء والمؤلفون المكتبة بمكتباتهم الخاصة.

النهضة الحديثة للمكتبة الحيدرية

على الرغم من تعرض المكتبة للتلف والنهب والحريق عبر تاريخها الطويل، فقد نهضت من جديد. وبالفعل، أعاد مركز الأبحاث العقائدية تأهيلها وافتتحها في عام 2005 تحت إشراف المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف.

وتشهد المكتبة الحيدرية اليوم نهضة شاملة، إذ تضم ما يقارب 200 ألف كتاب، و5100 قرص ليزري، و15000 رسالة جامعية، وأكثر من 300 ألف كتاب رقمي. ونتيجة لذلك، تواصل هذه المنارة العلمية دورها في نشر المعرفة وخدمة طلاب العلم والباحثين من مختلف أنحاء العالم.

مكتبة العتبة الحسينية المقدسة: مواجهة التحديات والانبعاث من جديد

تمثل مكتبة العتبة الحسينية المقدسة أحد أبرز الصروح الثقافية في العراق. ومع أن تاريخها يعود إلى ما قبل عام 1718م، إلا أنها واجهت محناً قاسية عبر التاريخ. ومن أبرز هذه المحن الغارة الوهابية عام 1802م، حيث أحرق المهاجمون ونهبوا الكثير من نفائسها.

محن المكتبة وتجاوزها للصعاب

تعرضت المكتبة لنكبة أخرى عندما صادر النظام البعثي محتوياتها وأحرق مخطوطاتها الثمينة عام 1991م. وللأسف، حوّل البعثيون قاعاتها إلى مكان لاحتجاز وتعذيب زوار الإمام الحسين عليه السلام.

ومع ذلك، بدأت مرحلة جديدة من تاريخ هذه المكتبة بعد سقوط النظام البعثي. وبالتحديد، افتتح القائمون على العتبة المكتبة من جديد في أوائل عام 2005م بعد إعادة تأهيلها بدعم من المرجعية العليا في النجف الأشرف.

محتويات المكتبة ونظام تصنيفها

تُعد مكتبة العتبة الحسينية اليوم من أفضل المكتبات في العراق. فهي تضم أكثر من 150 ألف مجلد بمختلف اللغات، بما في ذلك الإنكليزية والفرنسية والأوردية والفارسية والعربية. إضافة إلى ذلك، جمع القائمون عليها أكثر من 150 ألف بحث علمي منشور في المجلات العراقية.

أما المصادر الرقمية في المكتبة، فتشمل أكثر من 35 مليون ملف بحثي باللغة الإنكليزية. وعلاوة على ذلك، توفر المكتبة أكثر من مليون مصدر عربي رقمي، و140 ألف رسالة وأطروحة جامعية.

وتتميز مكتبة العتبة الحسينية بتنظيمها وفق نظام الرفوف المفتوحة والمغلقة. علاوة على ذلك، يستخدم أمناء المكتبة قواعد الفهرسة الأنجلو-أمريكية وتصنيف مكتبة الكونغرس، مما يجعلها متوافقة مع المعايير الدولية.

مكتبة العتبة العباسية المقدسة: تاريخ من الصمود والتطوير

تمثل مكتبة العتبة العباسية المقدسة صرحاً ثقافياً آخر له تاريخه العريق. أسس القائمون على العتبة هذه المكتبة عام 1382هـ، وكانت تحتوي على آلاف الكتب والمخطوطات النادرة. ولكن نظام البعث صادرها وأتلف محتوياتها خلال الانتفاضة الشعبانية عام 1991م.

التطور الحديث للمكتبة وخدماتها

ومع ذلك، قُدر لهذا الصرح أن ينبض بالحياة من جديد. فبعد إعادة التأهيل، طوّر المسؤولون المكتبة وشهدت قفزة نوعية في خدماتها. وتحديداً، استحدثوا وحدات متخصصة مثل وحدة ترميم المخطوطات ووحدة التأليف والدراسات.

تسعى مكتبة العتبة العباسية إلى حفظ التراث الوطني بمختلف أشكاله. كما تؤدي دوراً قيادياً في رفع مستوى الخدمات المكتبية على الصعيد الوطني من خلال إعداد المعايير وتطبيقها، والتعاون مع المكتبات الأخرى.

إلى جانب ذلك، يقدم العاملون في المكتبة خدمات متنوعة للباحثين، مثل الجولات الإرشادية وتدريب المستفيدين وخدمة البحث الإلكتروني. ونتيجة لهذه الخدمات المتطورة، احتلت المكتبة مكانة مرموقة بين مكتبات العراق.

مكتبة الجوادين العامة: إرث علمي وتاريخ عريق

تقع مكتبة الجوادين العامة في الركن الجنوبي الشرقي من الصحن الكاظمي المطهّر، وبمجرد الدخول إليها، يشعر الزائر بعبق التاريخ والعلم. وبالفعل، يقود الممر الطولي إلى قاعة بديعة تبلغ مساحتها حوالي 49 متراً مربعاً، تعلوها قبّة زيّن الفنانون جدرانها بنقوش إسلامية رائعة، حيث نقشوا سورة الدهر على الطوق المحيط بها من الأسفل.

نفائس المكتبة وأهميتها التاريخية

يميز هذه المكتبة العريقة رفوفها المليئة بالكتب الحجرية والنفائس، بما في ذلك كتب هندية ثمينة. ونظراً لأهميتها التاريخية، يتوسط القاعة مرقد مؤسسها السيد هبة الدين الحسيني الشهرستاني، الذي شغل منصب وزير للمعارف عام 1921م، بالإضافة إلى رئاسته لمجلس التمييز الشرعي الجعفري.

تطور المكتبة واهتمام المستشرقين بها

وعندما قرر السيد الشهرستاني الانتقال من بغداد إلى الكاظمية عام 1940، اصطحب معه مكتبته الخاصة التي اعتبرها المؤرخون من أهم المكتبات آنذاك. وبسبب ما تحتويه من نفائس الكتب المطبوعة والمخطوطة، أصبحت محط أنظار الباحثين والمفكرين من مختلف أنحاء العالم.

ومن الجدير بالذكر أن هذه المكتبة استقطبت اهتمام العديد من المستشرقين البارزين، ومن بينهم السنيور كارلو الفونسو نالينو المستشرق الإيطالي، والدكتور لويس ماسينيون أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة باريس، وكذلك جوزيف شاخت المتخصص في الفقه الإسلامي، وجيمس نورمان أندرسون أستاذ الشريعة الإسلامية في جامعتي أكسفورد وكامبردج.

النهضة الحديثة للمكتبة

بعد استلام السيد الشهرستاني للقاعة في 1 سبتمبر 1940، رمّمها وجهّزها بما يتناسب مع مكانتها العلمية. وفيما بعد، عهد بإدارتها إلى ولده السيد جواد منذ عام 1941، الذي عينته وزارة الأوقاف رسمياً أميناً عاماً لها في 21 يناير 1956.

وبلا شك، شهدت المكتبة نهضة جديدة بعد سقوط نظام البعث عام 2003، حيث عمل السيد جواد مع أبنائه على إعادة ترميمها وإحياء دورها الثقافي والعلمي. وبعد وفاة السيد جواد في أغسطس 2008، تولى ابنه السيد محمد إياد إدارتها، مواصلاً نهج والده وجده في خدمة طلاب العلم.

وإضافة إلى التوسعة التي حظيت بها المكتبة بدعم من وزارة الأوقاف، تضم اليوم مجموعة ثمينة من المخطوطات النادرة، منها 200 مخطوطة من مقتنيات السيد الشهرستاني، و300 مخطوطة أخرى تمثل مؤلفاته بخط يده. وعلاوة على ذلك، يصل إجمالي عدد المطبوعات إلى أكثر من 23 ألف كتاب متنوع في مجالات العلم والأدب والمعرفة.

المكتبة العامة لمسجد الكوفة المعظم: صرح معرفي حديث

أسس القائمون على مسجد الكوفة المكتبة العامة للمسجد في 15 يونيو 2009، وعلى الرغم من حداثة نشأتها، إلا أنها تضم عدداً كبيراً من الكتب المهمة. وبشكل تفصيلي، يبلغ عدد الكتب المعروضة فيها أكثر من 18250 كتاباً، بالإضافة إلى ما يزيد عن 26 ألف كتاب ومجلة دورية يحفظها العاملون في خزائن المكتبة.

مقتنيات المكتبة وتصنيفاتها

ومن الملفت للنظر أن المكتبة تحتفظ أيضاً بمئات النتاجات الأدبية والعلمية لمهرجان السفير، الذي ينظمه القائمون على المسجد سنوياً إحياءً لذكرى وصول مسلم بن عقيل، سفير الإمام الحسين، إلى الكوفة. وخلال هذا المهرجان، يعقد المنظمون ندوات بحثية ويناقشون بحوثاً مرتبطة بعلوم وسيرة آل البيت عليهم السلام.

أما فيما يتعلق بتصنيفات الكتب، فتتنوع محتويات المكتبة لتشمل العلوم القرآنية والحديث والفقه والأصول والأخلاق والفلسفة. بالإضافة إلى ذلك، جمع أمناء المكتبة كتباً في اللغة والأدب والتراجم والسيرة، خاصة سيرة المعصومين عليهم السلام، فضلاً عن مجلدات في التاريخ والسياسة والقانون وعلم النفس والاجتماع والتربية والتعليم والعلوم التطبيقية وغيرها.

التطور التكنولوجي ومصادر الكتب

وفي إطار مواكبة التطور التكنولوجي، أنشأ المسؤولون مكتبة إلكترونية ضمن مكتبة أمانة مسجد الكوفة، لتسهيل وصول الباحثين وطلبة العلوم إلى المصادر بشكل أسرع وأكثر كفاءة. وتأتي مصادر الكتب في المكتبة من خلال الشراء المباشر أو الإهداءات من باحثين وكتّاب ومؤسسات ثقافية وتربوية مختلفة.

دور المكتبات المقدسة في الحفاظ على التراث والهوية

تبقى هذه المكتبات شاهدة على عراقة التراث العلمي الإسلامي وأهميته، حيث يواصل القائمون عليها تقديم خدماتها للأجيال المتعاقبة من طلاب العلم والباحثين. لذلك، فهي ليست مجرد مخازن للكتب، بل منارات للمعرفة، تُشع علماً وعطاءً، وتربط الماضي بالحاضر لبناء مستقبل أكثر إشراقاً.

وفي النهاية، كما قال الشاعر: “أعز مكانٍ في الدنا سرج سابح وخيرُ جليسٍ في الزمان كتابُ”، فسعيد الحظ من يقضي أوقاته بين رفوف المعرفة والثقافة، ينهل من عطائها اللامحدود، ويساهم في نقل هذا الإرث الثمين للأجيال القادمة.

إغلاق