مقبرة كورونا: حكايات الألم والوحدة في النجف

مقبرة كورونا: حكايات الألم والوحدة في النجف


في زوايا مقبرة هادئة، حيث تتباعد القبور عن بعضها البعض، جلست امرأة تبحث عن قبر ابنها، الذي غادر الحياة دون أن تتمكن من وداعه بسبب جائحة فيروس كورونا. كانت ملامح الحزن بادية على وجهها، تعكس ألم الأم التي فقدت فلذة كبدها دون أن تسنح لها الفرصة لتودعه. تلك اللحظات المؤلمة تجسد معاناة العديد من الأمهات، لكنهن يراقبن من بعيد، إذ لا يزال الخوف من الإصابة بالفيروس يسيطر على قلوب الناس. ورغم أن إجراءات دفن الموتى في هذه المقبرة تتبع بروتوكولات صارمة تهدف إلى ضمان السلامة ومنع انتشار الوباء، إلا أن القلق يبقى حاضراً في النفوس.


في أطراف محافظة النجف الأشرف، تتواجد مقبرة موتى فيروس كورونا، حيث تتداخل الحكايات مع ذكريات أصحابها الذين رحلوا. في ظل هذا الوباء القاسي، باتت الزيارات إلى القبور محظورة، لكن ذلك لم يمنع امرأة من الوقوف أمام قبر ابنها، تتلفت حولها، ويجوب صمتها توجس القبور. كانت عيناها تبحثان عن تواصل بين القبور، وكأنها تسعى لربط الفواصل بينها.توجهت بنظراتها نحو قبر آخر، وكأنها تبحث عن شيء مفقود. ثم توقفت، وكسر صمت المكان بصوت يحمل آلام الأمومة المجروحة، صرخت على قبر ابنها: “لم تمت، إنك في عراق آخر يا ولدي.”

هكذا
تجسد المشهد في مقبرة كورونا صورة مصغرة للعراق، حيث أصبحت هذه الأرض مأوى للمتوفين نتيجة هذا الوباء، من جميع الطوائف والأديان. هنا، يتجاور حسين وعمر وقاسم مع أوديشو وسركون، وعربي يقف بجوار كردي وتركماني، وكأنهم لا يزالون يعيشون في الحياة، وليسوا مجرد أموات. إن هذه المقبرة تمثل وطنهم، الذي يجمعهم تحت الأرض دون أي اعتبار للاختلافات الطائفية أو القومية. في هذا المكان، تتلاشى الفواصل، ويظهر المعنى الحقيقي للوحدة الإنسانية في مواجهة الموت.


تُعبر تجربة هذه المقبرة، رغم ما تحمله من آلام ومعاناة، عن نموذج حقيقي لوطن يُعرف بالعراق. ففي هذه الأرض، دُفنت أجساد تنتمي لمختلف الطوائف والأديان، كلٌ وفق معتقده. وقد تجسد ذلك من خلال جهود فرقة الإمام علي (ع) القتالية، التي تتولى مسؤولية دفن جثامين المتوفين جراء فيروس كورونا.

وصف طاهر الموسوي، المستشار الإعلامي لفرقة الإمام علي (ع) القتالية، مقبرة وادي السلام الجديدة في النجف الأشرف بأنها “فسيفساء الموت”. فقد استقبلت المقبرة جثامين متوفين من جميع محافظات العراق، ومن مختلف المذاهب والقوميات، حيث يرقد فيها العرب، الأكراد، والتركمان، بالإضافة إلى ثلاثة مسيحيين دفنوا وفق طقوسهم الخاصة وبحضور ذويهم. وأكد الموسوي أن جميع المتوفين، بغض النظر عن ديانتهم، يُجرى عليهم ما يلزم من مراسم قبل الدفن، مشيراً إلى أن عدد القبور في المقبرة قد وصل إلى ما يقارب 780 قبراً.


أضاف الموسوي أن دور فرقة الإمام علي (ع) القتالية يتجاوز دفن الموتى، ليشمل أداء شعائر دينية متنوعة، منها قراءة القرآن الكريم يومياً، وإقامة مجالس العزاء، وتوزيع الطعام أسبوعياً، بالإضافة إلى زيارة الأئمة الأطهار وإيقاد الشموع ليلة الجمعة. وتتحمل الفرقة كافة نفقات بناء القبور، دون أي تكلفة على ذوي المتوفين، بفضل تخصيص محافظة النجف الأشرف أرضاً لذلك مجاناً. ويُطبق في دفن المسلمين الشريعة الإسلامية كاملةً، شاملةً الواجبات والمستحبات، كصلاة الجنازة، والغسل، والتكفين، وزيارة الأئمة، ووضع العقيق والمسبحة الحسينية، والتلقين في القبر. أما غير المسلمين، فيُدفنون وفقاً لطقوس دياناتهم.


أجرى مراسل وكالة الأنباء العراقية (واع) حواراً مع الشيخ محمد باقر المحمدي، وهو طالب في الحوزة العلمية، في مقبرة وادي السلام الجديدة. شرح الشيخ المحمدي طقوس الدفن، موضحاً أنه بالنسبة للرجال، تتضمن العملية الغسل، ثم التكفين، ثم التحنيط والصلاة، وأخيراً الدفن وفق الشريعة الإسلامية. أما بالنسبة للنساء، فنظراً لعدم توفر كوادر نسائية، يتم اللجوء إلى التيمم بدلاً من الغسل، حيث يُعلّم أحد أقارب المتوفاة (أمها أو أختها مثلاً) كيفية التيمم تحت إشراف طلبة الحوزة، ثم يُكمل باقي المراحل كالتحنيط والصلاة والدفن بالطريقة الشرعية.

وفيما يتعلق بدفن غير المسلمين، ذكر الشيخ المحمدي أنهم استقبلوا ثلاث جثث لمسيحيين، أُكملت بعض طقوسهم في بغداد، ثم دُفنوا في وادي السلام، حيث وُضعوا في التوابيت على ظهورهم ووجوههم نحو السماء، مع كتابة عبارات من الكتاب المقدس على قبورهم بناءً على رغبة ذويهم.


شرح سرمد خلف إبراهيم، من مديرية الطبابة في هيئة الحشد الشعبي، عملية نقل جثامين ضحايا كورونا من مختلف محافظات العراق إلى مقبرة وادي السلام في النجف. وأوضح أن المديرية، بالتعاون مع شؤون الشهداء والمقاتلين، خصصت أسطولاً كاملاً لنقل الجثامين بسرعة من المستشفيات إلى المقبرة، مستجيبةً لنداء المرجعية منذ أول حالة وفاة بكورونا.

ويتضمن الإجراء المتبع تعقيم السيارة والجنازة بالكامل، ثم نقل الجثمان إلى مغتسل خاص مجهز داخل سيارة مخصصة لذلك، تحت إشراف رجال دين من الحوزة العلمية وكوادر طبية من الحشد الشعبي. وتتم عملية الغسل والتكفين وفق المراسيم الشرعية، مع مراعاة كافة الإجراءات الصحية والوقائية لحماية الكوادر العاملة. بعد ذلك، يُنقل الجثمان إلى المقبرة لإتمام عملية الدفن.


اختتم إبراهيم حديثه مؤكداً على التعامل مع جميع المتوفين باعتبارهم أفراد عائلة واحدة، مشيراً إلى تخصيص مساحة خاصة للمسيحيين قرب منطقة دفن المسلمين، مع مراعاة طقوسهم الدينية، بما في ذلك الصلاة الخاصة وكتابة عبارات على القبور وفق تقاليدهم. وأكد على أن جميع المتوفين، بغض النظر عن ديانتهم أو طائفتهم، يُعاملون بنفس الاحترام، مع تطبيق كامل لإجراءات الدفن الخاصة بكل ديانة.

إغلاق